جريدة الرياض - 11/28/2025 1:24:51 AM - GMT (+2 )
الإعلام الرياضي شريك في صناعة الشعور الجماعي
في عالمٍ تتقاطع فيه العاطفة بالاقتصاد، لم تعد الرياضة مجرد منافسة على المستطيل الأخضر، بل أصبحت صناعة كبرى تتغذّى على المشاعر قبل أن تتغذّى على الأرقام. المشجع لم يعد فقط مصدر دخلٍ عبر التذاكر أو القمصان، بل أصبح الوقود العاطفي الذي يحرك اقتصادًا بأكمله.
الأندية التي كانت تُقاس قيمتها بنتائجها داخل الملعب، باتت تُقيَّم اليوم بقدرتها على تحويل الولاء إلى قيمة، والانتماء إلى ربحٍ مستدام، هنا يولد ما يسمى “اقتصاد المشاعر” في الرياضة؛ الاقتصاد الذي لا يبنى على المعادن أو الطاقة أو المال، بل على قوة الشعور الإنساني بالانتماء، وعلى الاستثمار في الشغف الذي لا يخضع للمحاسبة ولكنه يحرك الأسواق.
إن الأندية الكبرى اليوم تدرك أن العلاقة مع الجمهور لم تعد علاقة طرفين، بل منظومة عاطفية متبادلة يمكن توجيهها وتضخيمها وتسويقها، فعندما يشتري المشجع قميص ناديه، أو يتابع صفحاته في المنصات الرقمية، أو يعلّق عاطفيًا على فوزٍ أو خسارة، فإنه يشارك في منظومة مالية ضخمة تُعيد صياغة مفهوم القيمة الرياضية.
ومن هذا المنطلق، بدأ العالم يشهد سباقًا جديدًا بين الأندية الكبرى، ليس فقط في التعاقدات أو البطولات، بل في من يملك جمهورًا أكثر ولاءً وتفاعلًا واندماجًا.
ريال مدريد وبرشلونة ومانشستر يونايتد وباريس سان جيرمان وفرق الدوري الأمريكي، جميعها تحولت علامات عاطفية عالمية تُساق بها المنتجات، وتُبنى عليها الشراكات التجارية، إنها لم تعد تبيع كرة القدم فقط، بل تبيع الانتماء نفسه.
لقد أصبح المشجع، دون أن يدري، أحد أهم الأصول المالية غير الملموسة في ميزانيات الأندية، تمامًا كما تُسجَّل العلامة التجارية أو قيمة الشهرة في ميزانيات الشركات الكبرى. وفي هذا السياق، بدأت الشركات الراعية تُعيد النظر في فلسفة التسويق الرياضي.
فبدلاً من شراء مساحة إعلانية على القمصان، أصبحت تشتري العلاقة العاطفية التي تربط الجماهير بناديها، كل تفاعلٍ رقمي، وكل مشاركة أو تعليق أو دمعة بعد خسارة، تحولت إلى بيانات تُترجم إلى مؤشرات استثمارية. وهنا يتقاطع “اقتصاد المشاعر” مع الثورة الرقمية في الرياضة، إذ بات بالإمكان قياس درجة الولاء، وتحديد سلوك المشجعين، وتوقع تفاعلهم المستقبلي عبر تحليل البيانات الضخمة.
هذه التحولات أعادت تعريف دور الإعلام الرياضي أيضًا، فالإعلام لم يعد ناقلًا للأحداث، بل شريكًا في صناعة الشعور الجماعي، يغذي الحماس، ويصوغ السردية العاطفية التي تبنى عليها اقتصاديات الأندية. وكلما زادت الإثارة والدراما حول الحدث الرياضي، زادت معه القيمة الاقتصادية للحظة نفسها. ولهذا السبب تحديدًا أصبح “التفاعل” هو العملة الجديدة في السوق الرياضية؛ فبدلًا من أن تُقاس جماهيرية النادي بعدد بطولاته، أصبحت تُقاس بعدد المتفاعلين معه على المنصات الرقمية.
هذا التحول أوجد اقتصادًا عاطفيًا موازياً، يُمكن أن يرفع قيمة نادٍ خاسر ماديًا فوق نادٍ رابح بطولات. فالمسألة لم تعد مرتبطة بالنتائج فقط، بل بالقدرة على خلق حكاية مؤثرة ومستمرة حول النادي.
وفي هذا الإطار، تبرز تجربة المملكة العربية السعودية بوصفها نموذجًا متقدمًا لإعادة بناء العلاقة بين الجمهور والنادي على أسس عصرية. فخلال السنوات الأخيرة، شهدنا نقلة نوعية في مفهوم التسويق الرياضي المحلي، إذ بدأت الأندية تدرك أن جمهورها ليس كتلة صامتة، بل ثروة وجدانية واقتصادية ينبغي إدارتها بعناية. وبدلاً من الاكتفاء بالولاء التقليدي، أصبحت هناك مبادرات لربط الجماهير رقميًا عبر التطبيقات والتذاكر الذكية والتفاعل المباشر مع اللاعبين، وهي خطوات تمهد لبناء اقتصاد مشاعر وطني يتجاوز الحدود المحلية. إن الرياضة السعودية تمتلك مقوماتٍ نادرة لصناعة هذا الاقتصاد العاطفي؛ فالجمهور هنا ليس جمهور ترفيه، بل جمهور هوية واعتزاز وارتباط وجداني عميق. ولاء الجماهير السعودية لا يُشترى، بل يُكسب بالصدق والانتماء، وهذه هي القيمة الحقيقية التي يمكن أن تُحوّلها الرياضة إلى ثروة وطنية ناعمة.
تخيّل أن تُدار المشاعر الجماهيرية بمنهج علمي يعتمد على تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي، فتتحول ردود الفعل الجماهيرية إلى أدوات تخطيط للأندية، وتصبح القرارات الإدارية مبنية على فهمٍ دقيقٍ للعاطفة الجماعية لا على الانطباعات العابرة.
هذا ليس حلمًا بعيدًا، بل اتجاه عالمي بدأ فعلاً في بعض الدوريات الأوروبية والآسيوية، حيث تُقاس درجة الانتماء والرضا وتُستثمر في تعزيز القرارات التسويقية والاتصالية. لكن في المقابل، يجب أن نُدرك أن اقتصاد المشاعر يحمل مسؤولية أخلاقية كبيرة؛ فكلما أصبحت العاطفة سلعة، زادت الحاجة إلى الحوكمة التي تضمن ألا يُساء استغلالها.
لا بد أن تظل العلاقة بين النادي وجماهيره علاقة احترامٍ متبادلٍ، لا علاقة استثمارٍ جافٍ. فالمشاعر التي تُبنى عليها الرياضة يجب أن تبقى صادقة، نقية، لا تُختزل في الأرقام، لأن صدقها هو ما يمنحها قيمتها في الأصل. وفي النهاية، يمكن القول إن مستقبل الرياضة لن يُقاس فقط بما تحققه الأندية من أرباح مالية، بل بقدرتها على إدارة مشاعر جماهيرها وتحويلها إلى طاقة إيجابية تدعم النمو المستدام للمنظومة كلها، فالرياضة في جوهرها ليست منافسة على الكؤوس، بل على القلوب، ومن يفهم هذا المبدأ مبكرًا سيقود مستقبل الصناعة الرياضية في العالم.
- رئيس نادي الدرعية السابق
إقرأ المزيد


